أثر معاملة الرسول في نشر الدين
و يتكون من أربع أجزاء
من هنا نبدء بالمقدمه
أرسل ـتعالى ـ رسوله محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زمن لم يكن الناس في حاجة إلى مال ، أو معيشة ، ا, شراب ، ولم تكن أجسادهم بحاجة إلى شيء بقدر حاجة نفوسهم ، فقد شربوا رغد العيش حتى الشمالة ، وأصبحت مكة وما جاورها مهوى الأفئدة ، ومبتغى التجار والرحالة والسائرين ، ولقد تطلعت إليها القبائل العربية لكونها تعيش شظف العيش أما ( قبائل قريش القاطنين بالحرم ، فنهم يعيشون على رحلتي الشتاء إلى اليوم ، والصيف إلى الشمال ، وقد أمتن الله ـ تعالى ـ ذلك عليهم في قوله : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ*إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) [ قريش : 1-2 ] فكانوا في رغد من العيش على خلاف غيرهم ، فإنهم كانوا يعيشون على شظف العيش وضيق ، وما كان لقريش من سعة الرزق إنما كان لها من أجل حماها للحرم ، وتقديسها له ، كما هو كرامة الله لأرحام وأصلاب يتنقل فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ) .
كما اختلطت هذه الثورة الاقتصادية بما واكبها من مظاهر اجتماعية سيئة كانت سبباً في فساد المجمع القرشي ، وانحطاطه خلقياً واجتماعياً ، ومن أشهر تلك العادات السيئة التي هبطت بالمجتمع العربي قبل الإسلام : القمر المعروف بالميسر ، وشرب الخمر، الاجتماع عليها ، ونكاح الاستبضاع ، وواد البنات ، وتقل الأولاد ، وتبرج النساء كاشفات محاسنهن ، واتخاذ الحرائر من الناس الأخدان من الرجال ، وألان الإماء عن البغي بهن والعصبية القبيلة ، وشن الغارات والحروب .
فجاء ـ عليه الصلاة والسلام ـ في أهم ما يحتاجون إليه ، وهو الجانب العقائدي الذي فسد بسبب انقطاع الوحي عليهم بعد أن عمر الله ذلك الوادي بإبراهيم ـ عليه السلام ـ وولده إسماعيل ، وأصبحت مهمة الدعوة في ذلك في ذلك المجتمع صعبة لما كانت قد اعتادته نفوسهم ، وتوجهت إليه قلوبهم من معبودات وعادات ، جلبتها لهم الجاهلية ، والابتعاد عن دين الله ، وكانوا قد اتخذوا لهم أصناما عيد ، وقبوراً تقدس ، وآلهة ليس فيها نفع ، ولا منها ضر ، وكان وجود هذه الأصنام في بلاد العرب بدعاء لا سابق له ، فقد خرج عمرة أبن لحي من مكة إلى بلاد الشام في بعض أموره ، فلما قدم مآب من أرض البلقاء ، وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ، ويقال ولد عمليق بن لاوذين سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذا لأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالو له : هذه الأنصام نعبدها فنستطموها فتمطرنا وتستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم ك ألا تعطوني منها صنماً فأصير به على أرض العرب فيعبدونه ، فأعطوه صناً يقال له هبل ، فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظميه ) وبذلك استبدل العرب بدين إبراهيم وإسماعيل غيره ، فعبدوا الأوثان ، وصاروا على ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات ، وبعد ذلك ( اتخذ أهل كل درا فيم دارهم صنماً يعبدونه ، فإذا أراد الرجل مهم سفراً تمسح به ، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره ، وإذا قدم من سفره تمسح به ، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله ، قال : فملا بعث الله محمداً ـ صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش : ( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب ) [ ص . 5 ] . ولقد كان من الصعوبة تغيير هذه المفاهيم والنفوس التي جبلت على الشركات والمعبودات ، وكان لزاماً على من أتى لتغييرها وتبديلها أن يكتسب ما يساعده في تحقيق ذلك ، ولذلك كانت حجتهم في قولهم ، وردهم على الأنبياء بذلك : ( قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) [ الأنبياء : 53 ] ، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [ لقمان 21] ، (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف:23).
وعلى الرغم من كل هذا إلا أن الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم استطاع أن يغير واقع هذا الشعب ، وينقلهم من ذل العبودية للصنم والخلق ، لعز العبودية لله ـ تعالى _ من خلال ما وهبه الله من حين في القول والفعل ، وتميز في التعامل مع الناس ، ولا غرور في ذلك فقد شهد له ربه : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) [ القلم : 4] وتحدث عن نفسه وهو الصادق " أدبني ربي فأحسن تأديبي " .
وإن المتتبع لسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ليجد فيها ما يغني من حسن التصرف مع طبقات مختلفة من الناس ، في زمن الجهل ، وضعف الوزاع ، بل لقد سمع الناس به ، والتمسوا اخباره ، ثم انقادوا له مؤمنين ، وصاروا عله بعد ذلك رسلاً لأقوامهم ، وناصرين لدين الله .
ولقد استطاع ـ عليه الصلاة والسلام ـ بصفاته الطاهرة أن يحول تلك الطاقات البشرة لصالح الإسلام ، ولم يكن معه عصى سحرية يستجلب بها لقلوب الناس ، ولكن معه قدرة في التعامل ، أيده الله بها ، فصارت قلوب الناس لهذا الدين تهوى وتعشق .
نبدء الان
الجزء الاول:
كمال النفس ، ومكارم الأخلاق
بعث الله ـ تعالى ـ نبيه ـ صلى الله عليه وسلم إلى عموم الثقلين ، وأيده الله بما أيده به من معجزات إلهية ، ودلائل نبوية ، كانت وما زالت حديثاً يتناقله الناس ، ويتفاخر به المسلمون ،ولذلك ظهرت له العديد من هذه الصفات ، وتناقلت بعد وفاته ، صفحات جعلت منه حديثاً للقلوب تأنس بالحديث عنه ، وتلذ عند الوقوف عندها .
ولقد عرفت لنا مواقفه مع أهل بيته وأصحابه وخدمة وماليه الكثير من هذه الصفات التي ساندته في نشر دعوته ، وإبلاغها للناس ، ولعل في ذكرها توطيداً للحديث عن أثها في الناس الذي كان له الغلبة ، فما لبث الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً .
ومن هذه الصفات الكثيرة التي لا يمكن حصرها ، ما كان عليه من الحلم والاحتمال ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على المكاره ، ( صفات أ دبه الله بها ، وكل حليم قد عفرت منه زلة ، وحفظت عنه هفوة ، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم لم يزد مع كثير الأذى إلا صبراً وعلى إسراف الجاهل إلا حلماً ، قالت عائشة رضي الله عنها : " ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه ، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها ، وكان أبعد الناس غضباً ، وأسرعهم رضاً ) .
ولعله من المناسب الاستشهاد على هذا الصفات العظيمة ،والاخلاق الرفيعة بموقفه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع الأعرابي الذي سأله ، فعن أنس ابن مالك ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه قال : كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه برد غليظ الحاشية ، فجذبه أعرابي بردائه جذبه شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ، ثم قال : يا محمد أحمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك ، فنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك ، فسكت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال : المال مال الله ، وأنا عبده ، ثم قال : ويقاد منك يا أعربي ما فعلت بي ، قال : لا ، قال : لم ؟ قال : لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة ن فضحك عليه الصلاة والسلام ، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير ، وعلى الآخر تمر وكان من جميل خصاله الحياء وغض البصر ، كيف لا ؟ وهو الذي بعث للتشريع ، والذي حماه الله من كل باطل في الجاهلين ! فكيف به وقد أصبح رسول الإسلام ؟ وقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ذلك عن نفسه فقال : ( لما نشأت بغضت إلى الأوثان ، وبغض إلى الشعر ، ولم أهم بشيء مما كانت عليه الجاهلية تفعل إلا مرتين ، كل ذلك يحول الله برسالته ، قلت ليلة لغلام كان يرعى معي : لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب ، فخرجت حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لغرس كان لبعضهم فجلست لذلك ، فضرب اله على أني ، فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس ، ولم أقض شيئاً ، ثم عراني ذلك مرة أخرى ) .
وفي حيائه قال أبو سعيد الخدري : ( كان أشد حياة من العذراء في خدرها ، وإذ كره شيئاً عرف في وجهه ، وكان لا يثبت نظره في وجه أحد ، خافض الطرف كان نظرة إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، لا يشافه أحداً بما يكره حياء ، وكرم نفس ، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء بكرهه ، بل يقول : ما بال أ قوام يصنعون كذا ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالنسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح )
وأما حسن عشرته وأدبه ، وبسط خلقه مع أصناف الخلق ، فما أجمل ما قال عنه الخضري في ذلك ن ولذلك أورده هنا حيث قال : " فمما انتشرت به الاخبار الصحيحة ، قال علي ، صلى الله عليه وسلم ـ كان عليه الصلاة والسلام أوسع الناس صدراً ، وأدق الناس لهجة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، وكان عليه الصلاة والسلام يؤلفهم ، ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ، ولا خلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويعطي كل جلسائه نصيبه ، ولا يحسن جليسه أن أحداً أكرم عليه منه .. قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء .. وكان دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ،ولا صخاب ن ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مدا خ ، يتغافل عما يشتهي ، قال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ف) [ آل عمران : 159] وكان عليه الصلاة والسلام يجيب من دعاه ، ويقبل الهدية ، ولو كانت كراعاً ، ويكفي عليها ، وكان يمازح أصحابه ، ويخالطهم ، ويحادثهم ، ويعود المرضى في أقصى المدينة ...
وقال أنس : ما التقم أحد أذن النبي يحادثه فنحى رأسه ، حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبدأ أصحابه بالمصافحة ، لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى يضيق بهما على أحد ، يكرم من يدخل أصحابه ، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمه لهم ، ولا يقطع على أحد حديثه ... وكان أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً .
وعندما تستعرض شمائله وصفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبرز صفة الرحمة التي وهبها الله له ، تلك الرحمة التي شملت كل من سمع به ، فقد أرسله الله تعالى رحمه للعالمين ، وقد انقسمت رحمته إلى قسمين : قسم عامل شامل يظهر في موقفه مع جبريل ـ عليه السلام ـ يوم أن كذب به قومه ، فقال له جبريل : " إن الله ـ تعالى قد سمع قول قومك إليك ، وما رجوك عليه ، وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداه ملك الجبال وسلم عليه ، وقال : " مرني بما شئت أن أطبق عليهم الأخشبين " فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( لا بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ) ، وكان هذا مظهر من مظاهر الرحمة المحمدية العامة .
وأما القسم الثاني : فهو الحرمة الخاصة ، التي كانت دلائلها واضحة في موقفه مع الأعرابي الذي جاء يطلبه فأعطاه ، ثم قال له : " هل أحسنت إليك ؟ قال الإعرابي : لا ، ولا أجملت فغضب المسلمون لمقالته ، وقاموا إليه ليضربوه على سوء أدبه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأشر إليهم أن كفوا ، ثم قام فدخل منزله ، وأرسل إلى الإعرابي وزاده شيئاً ، ثم قال له " أحسنت إليك ؟" قال : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم " إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء ، فإن أحببت فقل بين أيدهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك " ، قال : نعم فلما كان الغد أو العشي جاء فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدنا فزعم أنه رضي أكذلك ؟ " قال : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " مثلي هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها النسا فلم يزدها إلا نفوراً فناداهم صاحبه ، خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها منكم وأعلم ، فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت ، وشد عيها رحله واستوى عليه ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال ، فقتلتموه دخل النار .
ولقد عظمت هذه الرحمة في قلبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كيف لا ؟ وما كان الذي أرسله ربه رحمة للعالمين إلا أن يرحم ، ولكن كان لها في قلوب الناس من أثر ، ولكم وجد أولئك من تلك الرحمة من خير وسعة .
ولم تكن رحمة ـ عليه الصلاة والسلام ـ خاصة بالناس ، بل تعدي ذلك إلى ما كان حوله من حيوان وجماد ، ومنها مواقفه مع الجذع الذي حن لفرقه بعد أن كان يخطب عليه ، فلما استبدلوه بمنبر حن الجذع كما جاء ، فقد قال جابر ابن عبد الله : كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل ، فكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا خطب يقوم إلى جذع منها ، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار ، عند أنس : حتى ارتجع المسجد لخواره ، فجاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوضع يده عليه فكست ، وقد زاد غيرة فقال ـ صلى الله عليه وسلم إن هذا بكى لما فقد من الذكر ، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة تحزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومما اتصف به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صفات الخير الوفاء ، وحسن العهد ، وصلة الرحمن ، والشواهد على هذه الصفات كثيرة يمكن أن نستعرض منها ما يلي : ـ
1- من دلائل وفائه ما كان له مع عبدالله بن الحماء قال ك بايعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ـ بيع ، قبل أن يبعث ، فإذا هو في مكة ، فقال : ( يا فتى لقد شققت علي ، أنا هنا منذ ثلاثة أنتظرك ) .
2- حدثت عائشة ـ رصي الله عنه ـ قالت : " ما غرت من أمرأة ما غرت من خديجة ، لما كنت أسمعه يكذهرا ، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها ، وأستأذنت عليه اختها فارتاح إليه ودخلت امرأة فهش لها ، وأحسن السؤال عنها فلما خرجت ، قال " إنها كانت تأتينا أيام خديجة ن وإن حسن المعهد من الإيمان "
3- حافظ الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صلة الأرحام ، وقد نال رحمه بكثير من الوصال والعطاء ، ومن ذلك أنه كان يبسط رداءه لامرأة تزوره ، فسئل عن هذه المرأة ، فقيل : أمه من الرضاعة ، ومن ذلك صلته بنته أمامة بنت زينت ـ رضي الله عنها ـ ، فكانت يحملها على عاتقه وهو يصلي ، فإذا سجد وضعها وإذ قام حملها فى عاتقه ، وكان يبعث إلى ثويبة مولاه أب يلهب مرضعته بصلة وكسوة .
ولقد اجتمعت جملة هذه الصفات ، واتضحت في مشهد خديجة له يوم أن عاد إليها يرجف مما شاهد وسمع في غار حراء ، حين قلت : ( كلا ، والله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ) .
وبعد هذا ، فلقد كان لجملة هذه الصفات أثرها البالغ في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحبه ، الذين وجدوا فيها ما وجدوه من حسن صحبه ، وكرامة ف ضل ، في زمن الغربة والألم والضيم ، ومن التشرد والخوف والوجل ، بل كان لهذه الصفات أثرها فيمن سمع به ، وشاهده ، وجلس إليه ، وآمن هادياً ويشيراً .
الجزء الثاني:
مما قيل في خلقه وحسن معاملته
عندما يتحدث المتحدث عن تلك الخصال الحميدة التي وهبنا الله نبيه ، يبقى الحكم الفاصل في كل ذلك لأولئك الذين عايشوه ، وتشرفوا بصحبته ، والذين شملتهم حسن معاملته ، وطيبة نفسه ، ورأفته ورحمته ولذلك وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ونقلوا وقائع حياته ، وغالبية مواقفه اليومية ، التي كانت ملئية بصفات الكمال النبوي ، ولأجل ذلك كان لزماً لمن تكلم عن معاملته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينقل ما قاله أصحابه وأهله عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووقع ذلك كله في نفسه .
ومن العجيب أن كرمه وطيبته ، وحسن تعامله نال البعيد ، فكيف بالمقربين من أهل بيته ، وأصحابه ، ولندع الحديث لهم لينقلوا شيئاً من سمات الحسن النبوي ، الذي أزهر قرناً من أعظم القرون ، وقوامه الحب والألفة التي وضع أساسها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وليكن الكلام حب رسول اله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي نقلت الكثير عن حياته ، وحسن تعامله ، فعنها رضي الله عنها ـ قالت : ( ما ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده شيئاً قط ، لا عبداً ولا ا مرأة ولا خادماً ،إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا نيل منه شيئ فينتقم من صاحبه إلا أن يًنتهك شيء من محارم الله ، فينتقم لله عز وجل )
وقالت : ( ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا أخذا ايسرهما مالم يكن إثماً ) .
وقالت : ( كان خلقه القرآن يرض لرضاه ، ويسخط لسخطه ) .
وفي شجاعته وإقدامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يروي أنس بن مالك ليلة في المدينة ، فيقول : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس ، وكان أود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل ا لمدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله راجعً ، وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف ، وهو يقول : لم تراعوا لم تراعوا ، قال : وجدناه بحراً أو أنها البحر ) .
وفي شجاعته تحدث على بن أبي طالب قال : ( لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسوله الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان أشد الناس باساً ، وفي عزوة هوازن لما فر هوازن لما فر جمهور أصحابه يومئذ ثبت وهو راكب بغلته ، وهو بنوه اسمه الشريف يقول : أنا النبي لا كذب ، انا ابن عبد المطلب وهو مع ذلك يركضها إلى نحو الأعداء .
أما في حسن المعاملة ، فقد قال أنس بن مالك الذي خدم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " خدمته في السفر والحضر ، والله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا كذا ؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذه هكذا ؟ ، وعنه ايضاً قوله : خدمت رسول الله تسمع سنين فما أعلمته قال لي قط : لم فعلت كذا وكذا ؟ ولا عاب علي شيئا قط . وعنه أيضاً : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أحسن الناس خلقاً ، فأرسلني ويوماً لحاجة ، فقلت : والله لا أذهب ، وفي نفسي أن أهذب لما أمرني به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق ، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي ، قال : فنظرت إليه وهو يضحك فقال : يا أنيس ذهبت حيث أمرتك ؟ فقلت ك نعم أنا أهذب يا رسول الله .
وعنه أيضاً : فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلا مني ، وإن لا مني أحد من أهله إلا قال : ( دعوه فلو قدر ـ أو , قال قضى ـ أن يكون كان ) .
وأما في جانب الزهد في الدنيا وما فهيا ، فقد أوردت عائشة الكثير من الكلام في ذلك ، حيث إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد فتح الله له الفتح ، وسيقت له الدنيا بحذافيرها إلا أنه رفضها ، وأبى أن يأخذ منها ، ولذلك مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونه عند يهودي في نفقة عياله ، وقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تتحدث عن بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما شبع عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام تباعاً من خبز حتى مضى لسبيله ، وما ترك عليه الصلة والسلام ديناراً ولا درهماً ، ولا شاة ولا يعبراً ، ولا مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفٍ لي ، وقد قال لي : إني عرض علي أن تجعل لي بط حاء مكة ذهباً فقلت : لا يارب أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فأما اليوم الذي أجوع فيه فاتضرع إليك وأدعوك ، وأما اليوم الذي أشبع فيه فاحمدك وأثني عليك ، ثم قالت : إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً ، إن هو إلا التمر والماء .
وختاماً : فما كان للسان أن تتكلم بما تقول إلاجراء ما رأت وشاهدت ، ولقد كانت حياة الحبيب المصطفى كلها لذة لا تنتهي ، فطاب العيش فيها ، واب الحديث عنها ، ورأى اصحابه وأهله فيه حديثاً شقياً لا يفترون من ذكره ، والكلام عنه ، فترنمت بذكره الشفاه ، وطاب به الحديث .
فعليه صلاة وسلام ما ذكرته الألسن ، وغردت به الشفاه .
الجزء الثالث:
مكانته عند قومه في الجاهلية والإسلام
لا يخفي على كل متطلع لسيرة الحبيب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان له من مكانه وقدر في قومه أيام الجاهلية وبعد الإسلام ، وذلك لما كان يحلم من صفات حميدة ، وسجاياً كريمة ، ولذلك أثرت معاملته فيهم ، وساعدت في نشر هذا الذين وإظهار كلمته ، ولق بدأت تلك الظواهر جميعها من قبل مبعثه ، وإرساله للناس ، فلقد كان عليه الصلاة والسلام الأمين المحبوب في الجاهلية والإسلام ، يعتدون براية ، ويقفون عند كلامه ، ولعل في وضع الحجر الأسود أوضح دليل على ذلك ، فعندما أرادت قبائل العرب إعادة بنا الكعبة اختصمت في رفع الحجر الأسود ، ورأوا أن يحكم بينهم أول من يدخل عليهم ، فدخل عليه م رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ ( فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل فخذا أن يأخذ بطائفة من الثوب ، فرفعوه وأخذه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوضعه ) .
هكذا كانت منزلته قبل أن تمازج الهداية قلبه ، فكيف بعد أن أصبح هادي البشرية ، إما الإنسانية ، وقد نزع الله من قلبه الجسد ، والحقد ، والغل ، ويراه من النواقص والعبيون ، وذلك في حادثة شق الصدر الشهيرة ، التي أظهرت بجلاء طهارته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وانتقائه من كل ما يعيب ، فهاهي حليمة السعدية مرضعته تتحدث عن أثره ـ عليه الصلاة والسلام ـ في كل جوان بالحياة المحيطة به ، وكيف تنصل من شعث الدنيا وحبها ، تقول : ( قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد ، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح علي حين قومنا به معنا شباعاً لبناً ، فتحلب ونشرب ، وما يجلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ، ويلكم أسحروا حيث يسرع راعي بنت أب ذويب ، فتروح أغنامهم جياعاً ، ما تنبض بقطرة لبن ، وتروح غنمي شبعاً لبناً ، فلم نزل تتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه ) .
ثم كانت تلك النفس الزكية على موعد كهر ونقاء آخر ، تقول مرضعته .
( وبعد مقدمنا بأشهر وإنه لفي بهم لنا مع أخيه خلف بيوتنا ، إذا أتانا أخوه يشتهد فقال لي ولأبيه : ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه ، قالت فخرجت أنا وأبو قفلنا له : مالك يا بني ؟ قال : جاء لي رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا يطني فلتمسا فهي شيئا لا أدري ما هو فرجعنا به إلى خبائنا ) .
فإذا كانت شخصيته عليه الصلاة والسلام قد جمعت البركة والخير في الظاهر ، ولاصفاء والنقاء في الباطن فكيف لنفوس عرفته ، وعيون نظرته ، أن تتأخر عن الإيمان به ؟ أما إن تلك السمات المحمدية ، والتعاملات النبوية جرت في نفوس رجال ذلك العصر مجرى عظيماً ، كانت نتائجها حب وإخلاص وولاء.